فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وأرادوا بذلك لعنهم الله تعالى أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا فإن كلًا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ** شكرت نداه تلاعه ووهاده

ولقد جعلوا للشمال يدًا كما في قوله:
أضل صواره وتضيفته ** نطوف أمرها بيد الشمال

وقول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ** إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر:
وقد رابني وهن المنى وانقباضها ** وبسط جديد اليأس كفيه في صدري

وقيل: معناه إنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181]، وقيل: اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق.
وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعًا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوًا كبيرًا.
والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قول قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138] وعبدوا العجل أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولًا واعتقدوا مذهبًا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكى عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم.
وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه؛ ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفي بعده. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ}.
فيه وجهان:
الأول: أنه دعاء عليهم، والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] وعلى أبي لهب في قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] الثاني: أنه إخبار.
قال الحسن: غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة، أي شدت إلى أعناقهم جزاءً لهم على هذا القول.
فإن قيل: فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاءً لهم على هذا القول، فكان ينبغي أن يقال: فغلت أيديهم.
قلنا: حذف العطف وإن كان مضمرًا إلا أنه حذف لفائدة، وهي أنه لما حذف كان قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} كالكلام المبتدأ به، وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة؛ لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره، ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] ولم يقل: فقالوا أتتخذنا هزوًا.
وأما قوله: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. اهـ.

.قال الألوسي:

{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم كما قال الزجاج ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسًا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله:
قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه ** قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا

واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن فيما نرى ليس نصًا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك.
{وَلُعِنُواْ} أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه {بِمَا قَالُواْ} أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرئ {وَلُعِنُواْ} بسكون العين. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}
اعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات، فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد، فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد.
قال تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وتارة بإثبات اليدين لله تعالى: منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75] وتارة بإثبات الأيدي.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما} [ياس: 71].
إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى، فقالت المجسمة: إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد، واحتجوا عليه بقوله تعالى: {ألَهُمْ أرجل يمشون بها أم لهم أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضًا اسم اليد موضوع لهذا العضو، فحمله على شيء آخر ترك للغة، وإنه لا يجوز.
واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار، وكل ما كان متناهيًا في المقدار فهو محدث، ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء، وكل ما كان كذلك كان قابلًا للتركيب والانحلال، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركّبه ويؤلفه، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسمًا، فيمتنع أن تكون يده عضوًا جسمانيًا.
وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان: الأول: قول من يقول: القرآن لما دلّ على إثبات اليد لله تعالى آمنا به، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف.
وأما المتكلمون فقالوا: اليد تذكر في اللغة على وجوه: أحدها: الجارحة وهو معلوم، وثانيها: النعمة، تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها، وثالثها: القوة قال تعالى: {أُوْلِى الأيدى والأبصار} [ص: 45] فسروه بذوي القوى والعقول، وحكى سيبويه أنهم قالوا: لا يد لك بهذا، والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها: الملك، يقال: هذه الضيعة في يد فلان، أي في ملكه.
قال تعالى: {الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي يملك ذلك، وخامسها: شدة العناية والاختصاص.
قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75] والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات.
ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئًا.
إذا عرفت هذا فنقول: اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة.
وههنا قول آخر، وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال: والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلابد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء، وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة.
فإن قيل: إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل؛ لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة، وبإثبات الأيدي أخرى، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] [النحل: 18].
والجواب: إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الإشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} كناية عن البخل، فأجيبوا على وفق كلامهم، فقيل {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل، بل هو جواد على سبيل الكمال.
فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه، وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الإشكال المذكور من وجهين: الأول: أنه نسبة بحسب الجنس، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها، فقيل: نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء.
الثاني: أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة، ألا ترى أن قولهم لبيك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة، وكذلك سعديك معناه مساعدة بعد مساعدة، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين.
فكذلك الآية: المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة. اهـ.